منوعات

إفلاس المنظومة لا الدولة!

إفلاس الدولة ومصرف لبنان، ليس أمرًا مفاجئًا للبنانيين، بالمعنى المجازي للقول، لكن في حقيقة الأمر في لبنان فإن ما صدر عن نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي من كلام، شغل الإعلام العربي والغربي عن “إفلاس لبنان” في خانة “عدم قدرة الدولة على تأمين الأموال اللازمة للخروج من الأزمة”، أو لتسديد أموال المودعين حين يتم التوافق على توزيع الخسائر، هو في الواقع ابتزاز للمودعين وتحميلهم عبء الخسائر وحدهم إثر الانهيار الكبير.
 لن يتغيّر شيء حتمًا على المواطنين ما قبل إعلان المسؤول الحكومي “إفلاس” الدولة وما بعده، لكن رغم الخراب الكبير، الذي أتى وذلك الذي سيأتي، فمن المصيبة أن يجهل نائب رئيس مجلس الوزراء والمفاوض الأول لصندوق النقد الدولي أن الدولة لا تُفلس.
لم يُعرف بعد سبب الاندفاعة الإعلامية لنائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، للإشهار العلني بإفلاس الدولة، هل هو زلّة لسان أم محاولة لحض الجمهور اللبناني على قبول تكبيدهم أحمال الخسارات التي ارتكبتها المنظومة المالية والسياسية مجتمعة بعد نهب منظّم لأموال المودعين، أم هي رسالة للمجتمع الدولي عبر صندوق النقد لإعلامهم أن لبنان غير قادر على سداد الديون، أم هو جهل وتجهيل!؟.
على الأرجح أن الخبير النقدي، صاحب الخبرات في مؤسسات مالية دولية، استخدم “إفلاس الدولة”، الذي لا يصح تقنيًا، للتهرّب من مسؤولية تبديد أموال المودعين المفقودة. وفي السياسة يمكن إدراج “التفليسة” ضمن وسائل الضغط على مجلس النواب لتمرير قانون الكابيتال كونترول، الذي يُعدم ما تبقى من ودائع في المصارف ويُقدّم للسلطة النقدية والمصارف سجلًا عدليًا نظيفًا، بوصفه مخرجًا لتجاوز الأزمة المالية وبابًا للتفاوض مع صندوق النقد.
كلام سعادة الشامي الإعلامي، الذي لم يخرج مسؤول رسمي لتوضيحه، يُمهد لمشروع مشبوه للسيطرة على ما تبقى من أموال. ومما قاله “سيجري توزيع الخسائر على الدولة ومصرف لبنان والمصارف والمودعين، ولا توجد نسبة مئوية محددة، للأسف الدولة مفلسة وكذلك مصرف لبنان، ونريد أن نخرج بنتيجة، والخسارة وقعت بسبب سياسات لعقود، ولو لم نفعل شيئًا ستكون الخسارة أكبر بكثير”.
وأضاف الشامي أن “هناك حقيقة لا يمكن تجاهلها، ولا يمكن أن نعيش في حالة إنكار، ولا يمكن أن نفتح السحوبات (المصرفية) لكل الناس، وأنا أتمنى ذلك لو كنا في حالة طبيعية”.
حالة الإنكار التي تحدّث عنها الشامي، هي بحسب مصادر مطلعة، أن تشيح السلطة نظرها عن ممتلكات الدولة والمصارف للسيولة والأصول واسترجاع الأموال المنهوبة وضريبة الأملاك البحرية التي إذا ما أُحسنت إدارتها تحلّ الأزمة. وألا تلجأ السلطة إلى إعلان إفلاس احتيالي لأن المتضرر سيدفع مزيد من الأكلاف لتغطية الانهيار وعدم اللجوء لأصول الدولة وممتلكاتها للتعويض على المتضررين.
الحالة اللا طبيعية، التي وصلها لبنان على يد مافيات المال والسلطة، كان نتاجها كما أضحى ملموسًا بلحم اللبنانيين الحي، أزمة اقتصادية ومالية حادة تعصف بالبلاد منذ أواخر 2019، أدت إلى تدهور قياسي بقيمة الليرة اللبنانية مقابل الدولار وعجر فادح عن تأمين أموال اللبنانيين وحجز رواتبهم في المصارف.
 ومن المفيد تذكير نائب رئيس الحكومة، أن رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي نفسه تحدّث قبل أسبوعين عن أن “أكثر من 90% من أموال المودعين ستكون محفوظة لدى الدولة اللبنانية وستُدفع”.! وأعلن عن تكليف وزير المالية اتخاذ الإجراءات اللازمة لعدم تحديد السقوف لسحب الرواتب من المصارف، وصون حقوق المودعين! فهل من يخرج من المسؤولين بالكلام اليقين؟.
إذا ما تمّ التسليم بفرضية إفلاس الدولة فالمطلوب تحديد كيفية انتشال الدولة من إفلاسها وخصوصاً مع وجود أموال مهربة ومفقودة، وبحسب الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، يجب التفتيش عن رأس المال الضائع وتعيين حاكم جديد للمصرف المركزي مستقل القرار. كما أنه يجب السير بالتدقيق المالي الجنائي، الذي لم يُطرح بشكل جدي حتى الآن لتحديد المسؤول عن الفجوة المالية لأنَّ التعافي الحقيقي يبدأ بتحديد المسؤول عن الفجوة المالية وليس بوضع موازنة تقوم على الضرائب.
في تعريف إفلاس الدولة، هو عجز الدولة عن الوفاء بديونها أو الحصول على الأموال من الجهات الخارجية لدفع أثمان ما تستورده من بضائع وسلع وإفلاس الدولة يلحقه انهيار لعملتها ولنظامها البنكي وعدم قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها المالية الأخرى مثل دفع الرواتب والأجور مما قد يترك أثرًا قاسيًا وطويل الأمد في الاقتصاد الإنتاجي وفي مكانتها المالية. وهذا ما لا ينطبق على لبنان حتى اللحظة فالدولة اللبنانية لا تزال تملك أملاكًا عامة واحتياطيًا كبيرًا من الذهب وبالتالي ليس هناك إفلاس في مثل هذه الحالة.
وفي الحديث عن الذهب، لفت الشامي في إطلالته التلفزيونية إلى أن “مصرف لبنان يتولى عملية جرد لكميات الذهب التي بحوزته، وقد بدأ بالفعل بعملية الجرد”. وأشار إلى أن شركة “كي بي إم جي” تدقق مصرف لبنان. علمًا أن إحصاءات المجلس العالمي للذهب تقول إن لبنان يملك ثاني أكبر احتياطي من الذهب عربيًا.
التصريح الذي يُثير الريبة في أن يكون مصرف لبنان عاجزًا عن تحديد عدد سبائك الذهب التي يملكها رغم إعلانه بدء ذلك منذ عامين على لسان حاكم المركزي رياض سلامة، يشي بمفاجآت مقلقة لن تنتهي بما يسرّ اللبنانيين، ولن تحميهم من إفلاس مجازي مستعار إلى إفلاس حقيقي سببه طبقة حاكمة مُفلسة على صعيد المسؤولية والقرار.

رانيا برو

صحافية وكاتبة لبنانية. عملت في مؤسسات اعلامية لبنانية وعربية مكتوبة ومرئية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى